جائزة نوبل في الكيمياء: تطور الكيمياء الحديثة (الجزء الثاني)

تابعنا في الجزء الأول من سلسلة جائزة نوبل مقدمة تاريخية عنها. لنتابع هنا جوائز نوبل للكيمياء!

3- جوائز نوبل للكيمياء بين عامي 2000-1911:

إن نظرة عامة لجوائز نوبل في الكيمياء الممنوحة خلال القرن العشرين تظهر أن تطور هذا المجال يتضمن انفتاحات على كل فروعه مع سيطرة واضحة للتقدم في الكيمياء الفيزيائية وأقسامها ( الترموديناميك الكيميائي والتغير الكيميائي ) وفي البنية الكيميائية و في عدة مجالات للكيمياء العضوية بالإضافة للكيمياء الحيوية. وطبعاً فإن الحدود بين مختلف هذه المجالات مشتتة لذا فإن الحائزين على الجوائز قد يشار إليهم في أكثر من موضع.

3-1- الكيمياء الفيزيائية والعامة:

منحت جائزة نوبل للكيمياء في عام 1914 للعالم Theodore William Richard من جامعة هارفرد وذلك لتحديده الدقيق للوزن الذري لمجموعة كبيرة من العناصر الكيميائية . إن معظم الأوزان الذرية في جدول كانيزاروس (انظر القسم 1-2 في الجزء الأول) قد تم تحديدها في القرن التاسع عشر خاصة من قبل الكيميائي البلجيكي Jean Servais Stas لكن أظهر Richards أن معظمها خاطىء والسبب يعود بشكل رئيسي أن Stas قد عمل على محاليل مركزة جداً للعناصر تؤدي للترسيب المشترك. في عام 1913 اكتشف Richards  أن الوزن الذري للرصاص الطبيعي و للرصاص المتشكل من التحلل الإشعاعي لمعادن اليورانيوم مختلفان. وهذا يشير لوجود النظائر أي ذرات لنفس العنصر لكنها تختلف بالوزن الذري وهذه تم تحديدها بشكل دقيق من قبل العالم Francis William Astom من جامعة كامبردج وذلك بمساعدة جهاز قام بتطويره بنفسه وهو جهاز مطياف الكتلة. أظهر Astom أيضاً أن الأوزان الذرية للعناصر النقية (وذلك ضمن درجة الفصل المحددة في تجربته) هي أرقام صحيحة باستثناء الهيدروجين لذا منحه الوزن الذري 1.008 . وبسبب إنجازاته تلقى Astom جائزة نوبل للكيمياء في عام 1922.

أحد  فروع الكيمياء الفيزيائية يتناول موضوع الأحداث الكيميائية الناتجة عن تداخل طورين مثلاً كالطورين الصلب والسائل والظواهر الناتجة عن مثل هذه التداخلات لها تطبيقات هامة تغطي مجالات عديدة من العمليات التقنية إلى الفيزيولوجية . وقد تم إنجاز دراسات مفصلة حول ظاهرة الادمصاص على السطوح من قبل العالم Irving Langmuir في مخبر البحث التابع للشركة العامة للكهرباء . وعندما منح جائزة نوبل للكيمياء في عام 1932 كان أول عالم صناعي يتلقى هذا التقدير.

منحت جائزتين من جوائز نوبل للكيمياء في العقود الأخيرة للعمل الأساسي المتعلق بتطبيق الطرق الطيفية لحل المشاكل الكيميائية . وقد عرف العمل في المطيافية بارتباطه بجوائز نوبل للفيزياء منحت في أعوام 1952 و 1955 و 1961 .عندما تلقى العالم Gerhard Herzberg وهو فيزيائي من جامعة Saskatchewan جائزة نوبل للكيمياء عام 1971 كانت بسبب دراساته عن المطيافية الجزيئية للتركيب الإلكتروني والهندسي للجزيئات وخاصة الجذور الحرة . يعد الرنين النووي المغناطيسي NMR بلا شك الطريقة الطيفية الأكثر استخداماَ في الكيمياء  وقد منح العالم Richard R.Ernst من جامعة زبورخ للعلوم التطبيقية ETH جائزة نوبل للكيمياء في عام 1991 لتطويره طريقة ذات درجة فصل عالية لمطيافية الرنين النووي المغناطيسي . وقد جعلت طريقة Ernst الطيف ممكناً لتحديد بنية محاليل الجزيئات الكبيرة كالبروتينات (وذلك على العكس من البلورات.انظر القسم 3-5)

3-2- الترموديناميك الكيميائي

إن أول جائزة نوبل للكيمياء منحت للعالم Van,t Hoff وذلك كجزء من عمله في الترموديناميك الكيميائي بالإضافة لمساهماته العديدة اللاحقة في هذا المجال والتي ارتبطت بجوائز نوبل. تلقى سابقاً العالم Walther Hermann Nernst في عام 1920 هذه الجائزة لعمله في الترموديناميك رغم أن موضع هذا التقدير قد شُغل قبل 16 عام من قبل العالم Arrhenius. أظهر Nernst أنه يمكن تحديد ثابت التوازن للتفاعل الكيميائي انطلاقاً من المعطيات الحرارية و بعمله هذا شكل ما دعاه بالقانون الثالث في الترموديناميك. ويعبر هذا القانون عن الأنتروبية وهي مقدار ترموديناميكي يعبر عن قياس الفوضى أو العشوائية في النظام بحيث تقترب هذه العشوائية من الصفر كلما اتجهت درجة الحرارة نحو درجة الصفر المطلق. استنتج Van,t Hoff معادلة عمل الكتلة في عام 1886 عبر الاستعانة بالقانون الثاني في الترموديناميك والذي ينص على أن الأنتروبية تزداد في كل التفاعلات التي تتم من تلقاء نفسها (وكان قد أٌنجز هذا القانون في عام 1876 من قبل العالم J.Willard Gibbs من جامعة Yale والذي بالتأكيد قد استحق جائزة نوبل ولكن تم نشر عمله في مكان غير معروف). وفقاً للقانون الثاني في الترموديناميك فإن حرارة التفاعل لا تعد مقياساً دقيقاً للتوازن الكيميائي كما كان يعتقد الباحثون السابقون. لكن أظهر Nernst في عام 1906 أنه وبالاستعانة بالقانون الثالث في الترموديناميك يمكن استنتاج المعاملات الضرورية من الحرارة اعتماداً على المقادير الحرارية الكيميائية.

ولكي يثبت نظريته الحرارية (القانون الثالث في الترموديناميك) قام Nernest بإجراء القياسات الحرارية الكيميائية بدرجات حرارة منخفضة جداً ليتم لاحقاً التوسع في هذه الأبحاث في العشرينات من نفس القرن من قبل الباحث G.N.Lewis (انظر القسم 1-1) من جامعة Berkeley . وقد تم تأكيد صياغة Lewis الجديدة للقانون الثالث في الترموديناميك من قبل تلميذه العالم William Francis Giaque حيث قام بتوسيع مجال درجة الحرارة والذي يمكن الوصول إليه تجريبياً عبر تقديمه طريقة إزالة المغنطة الكاظمة للحرارة (أي دون فقدان أو اكتساب للحرارة) وذلك في عام 1933. ونجح بهذه الطريقة ببلوغ درجات حرارة تصل إلى عدة آلاف فوق درجة الصفر المطلق واستطاع بذلك تأمين قياسات دقيقة جداً للأنتروبية كما أظهر أيضاً أنه يمكن تحديد الأنتروبية انطلاقاً من المعلومات الطيفية. مُنح Giauque جائزة نوبل للكيمياء في عام 1949 لمساهماته في مجال الترموديناميك الكيميائي.

ذهبت جائزة نوبل التالية للعمل في مجال الترموديناميك للعالم Lars Onsager من جامعة Yale في عام 1968 وذلك لمساهماته في ترموديناميك العمليات اللاعكوسة. يتعامل الترموديناميك التقليدي مع الأنظمة في حالة التوازن أي التي يمكن أن تكون فيها التفاعلات الكيميائية عكوسة لكن في العديد من الأنظمة الكيميائية كالكائنات الحية والتي تعد أكثر الأنظمة تعقيداً تكون فيها التفاعلات بعيدة عن التوازن وتسمى باللاعكوسة . وبمساعدة الآليات الإحصائية طور Onsager في عام 1931 ما أسماها بالعلاقات التبادلية واصفاً تدفق المادة والطاقة في مثل هذه الأنظمة لكن أهمية عمله لم تعرف حتى نهاية أربعينيات القرن العشرين. تم اتخاذ خطوة نحو الأمام بعدها لتطوير الترموديناميك اللامتوازن من قبل العالم Ilya Prigogine في بروكسل والذي منح جائزة نوبل للكيمياء في عام 1977 لنظريته المتعلقة بالبنى المبعثرة.

3-3- التغير الكيميائي

تعد الكيمياء الحركية هي الطريقة الأساسية للحصول على معلومات حول آلية التفاعلات الكيميائية مثلاً قياسات معدل (سرعة) التفاعل باستخدام تراكيز المواد المتفاعلة بالإضافة إلى الاعتماد على درجة الحرارة والضغط و وسط التفاعل. تم إنجاز العمل الهام في هذا المجال من الكيمياء في ثمانينات القرن التاسع عشر من قبل العالمين الحائزين الأوائل على جائزة نوبل وهما  Van,t Hoff و Arrhenius والذين أظهرا أنه لا يكفي أن تصطدم الجزيئات ببعضها حتى يحدث التفاعل الكيميائي . إنما في الواقع  فقط الجزيئات التي تمتلك طاقة حركية خلال التصادم يمكنها أن تتفاعل وقام Arrhenius في عام 1889 باشتقاق المعادلة التي تسمح بحساب طاقة التنشيط من خلال درجة الحرارة المعتمدة على معدل التفاعل. ومع تقدم الآليات في كيمياء الكم في عشرينات القرن العشرين (انظر القسم 3-4) طور العالم Eyring نظريته في الحالة الانتقالية للتفاعل الكيميائي في عام 1935 وأظهر أن تنشيط الأنتروبية (فوضى التفاعل) أيضاً مهمة. ومن الغريب أن Eyring لم يتلقى جائزة نوبل (انظر القسم 2-1).

في عام 1956 تشارك العالمان Sir Cyril Norman Hinshelwood من أوكسفورد و Nikolay Nikolaevich Semenov من موسكو جائزة نوبل للكيمياء وذلك لأبحاثهم في آليات التفاعلات الكيميائية. ومن بين مساهمات Hinshelwood العظيمة يمكن أن نشير إلى توضيحه التفصيلي لآلية التفاعل بين الأوكسجين والهيدروجين بينما جائزة Semenov كانت بسبب دراساته لما يسمى بسلسلة التفاعلات الكيميائية.

يُمكن التحكم بحد معدلات التفاعل الكيميائي حسب السرعة التي يمكن أن يبدأ بها التفاعل (السرعة الابتدائية). فإذا تم إنجاز التفاعل عبر مزج سريع للمواد المتفاعلة فإن الحد الأقصى لزمن التفاعل سيكون حوالي ألف جزء من الثانية (ميلي ثانية).في خمسينات القرن العشرين طوَر العالم Manfred Eigen من Gottingen طرق كيميائية مريحة تسمح بإجراء القياسات في أزمنة أقصر تصل لأجزاء من الألف أو المليون من الميلي ثانية (أي ميكرو ثانية أو نانو ثانية). تتضمن هذه الطرق اضطراب التوازن الكيميائي بحصول تغيرات سريعة بالحرارة أو الضغط وهذا ما يؤدي للوصول إلى توازن جديد. هناك طريقة أخرى لكي تبدأ بعض التفاعلات بشكل سريع وهي التحلل الضوئي السريع (flash photolysis) أي عبر ومضات ضوئية قصيرة وقد تم تطويرها من قبل العالمين Roland G.W. Norrish من جامعة Cambridge و George Porter (Lord Porter منذ عام 1990) من London. حيث تلقى Eigen نصف جائزة نوبل للكيمياء بينما تشارك Norrish و Porter النصف الآخر في عام 1967. إن إجراء القياسات بأزمنة تصل لميلي إلى بيكو ثانية أعطى معلومات هامة عن التفاعلات الكيميائية ولم يكن هذا حتى أصبح ممكناً توليد نبضات ليزرية بأزمنة الفمتو ثانية        (أي 10-15 ثانية) والتي أصبح من الممكن كشفها عندما تتكسر الروابط الكيميائية وتتشكل من جديد. تلقى العالم Ahmed Zewail (من مواليد مصر 1946) من معهد كاليفورنيا للتقانة جائزة نوبل للكيمياء في عام 1999 لتطويره “كيمياء الفمتو” وبشكل خاص ليكون أول من أثبت تجريبياً الحالة الانتقالية خلال التفاعل الكيميائي. حيث ترتبط تجاربه بعام 1889 عندما تنبأ Arrhenius (الحائز على جائزة نوبل عام 1903) بوجود الحالة الانتقالية أو التواسطية خلال التحول من المواد المتفاعلة إلى المواد الناتجة عن التفاعل . نال العالم Henry Taube من جامعة Stanford جائزة نوبل للكيمياء في عام 1983 لعمله حول تفاعلات انتقال الإلكترون خاصة في المعقدات المعدنية. رغم أن عمل Taube كان على التفاعلات اللاعضوية إلا أن انتقال الإلكترون هام في العديد من العمليات التحفيزية المستخدمة في الصناعة وأيضاً في الأنظمة الحيوية كعمليات التنفس والتركيب الضوئي. إن الجائزة الأخيرة للعمل في مجال الحرائك الكيميائية تم منحها للعلماء Dudley R. Herschbach من جامعة Harvard و Yuan T. Lee من Berkeley و John C. Polanyi من Toronto في عام 1986.عرض Herscchbach وطالبهLee  استخدام تدفقات الجزيئات وفق حزم جزيئية وطاقة واتجاهات محددة بدقة. وعبر مرور اثنين من هذه الحزم يمكن دراسة تفاصيل التفاعل بين الجزيئات خلال أزمنة قصيرة جداً. هناك أيضاً طريقة أخرى مهمة لكشف مثل هكذا تفاصيل عن التفاعل الكيميائي وهي التوهج بالأشعة تحت الحمراء والتي تم عرضها من قبل Polanyl . حيث أن انبعاث الأشعة تحت الحمراء من منتجات التفاعل يعطي معلومات حول توزع الطاقة في الجزيئات.

المصدر:

Bo G. Malmström , Bertil Andersson.| (n.d).|The Nobel Prize in chemistry:The Development of Modern Chemistry.| NobelPrize.| Retrieved (28/5/2017).| From:

http://www.nobelprize.org/nobel_prizes/themes/chemistry/malmstrom/index.html

شارك هذه المادة!
Exit mobile version