لطالما كان كشف تفاصيل الجزيئات الحيوية كالبروتينات وجزيئات DNA ورؤيتها بالأبعاد الذرية حلمًا يراود علماء الكيمياء الحيوية وها قد جاء اليوم الذي أصبح فيه هذا الحلم حقيقة وذلك بإدخال العديد من التحسينات والتعديلات على المجهر الإلكتروني ليناسب فحص الجزيئات الحيوية بدقة عالية، ويعود الفضل في هذه التعديلات إلى الجهود التي بذلها علماء ثلاثة هم: Jack Dubochet من سويسرا و Joachim Frank من الولايات المتحدة الأمريكية و Richard Henderson من بريطانيا، حيث ساهم كل منهم في إظهار صور المجهر الإلكتروني المزود بتقنية التبريد (Cryo-EM) بأعلى جودة الأمر الذي استحقّوا أن ينالوا لأجله جائزة نوبل في الكيمياء لعام 2017.
من أين بدأت الحكاية؟
حتى خمسينات القرن الماضي تم استخدام الأشعة السينية X-ray لرؤية بعض الجزيئات الحيوية وكانت هذه الطريقة صالحة فقط للجزيئات المنتظمة والقابلة للتبلور قبل فحصها، كذلك ساعد ظهور تقنية الرنين النووي المغناطيسي NMR على كشف بعض البروتينات الصغيرة فقط، وأمام هذه المعوقات بدأت حكاية جائزة اليوم عندما فكر Henderson وهو أحد الفائزين بالجائزة باستخدام المجهر الإلكتروني لفحص الجزيئات الحيوية.
اختُرع المجهر الإلكتروني عام 1930 ويعتمد هذا المجهر في عمله على إطلاق حزمة من الإلكترونات بدلاً من الضوء إلى العينة ما يسمح برؤيتها بصورة أدق؛ ذلك لأن طول موجة الإلكترون أقصر من طول موجة الضوء، وكان المجهر آنذاك يعطي صوراً ثنائية الأبعاد ويستعمل لدراسة المادة الميتة فقط؛ إذ أن رؤية المادة من خلاله يتطلب وجود خلاء Vacuum والذي يقوم بتبخير ماء المادة الحية فتجف وتموت ما يجعل الصور تظهر بشكل غير واضح، وهذه كانت أول مشكلة واجهت Henderson وفريقه عندما فكر باستخدام هذا المجهر.
جهود العلماء الثلاثة
أوّل تجربة أجراها Henderson وفريقه كانت عام 1975 وتمثّلت في محاولة معرفة تركيب البروتينات في غشاء إحدى العضيات الصانعة للضوء والمسماة “Photosynthesising organism”، حيث تم وضع عينة من كامل الغشاء كما هو تحت المجهر الإلكتروني بدون عزل البروتين منه وغطوا سطح العينة بمحلول سكري ليمنع جفافها وأطلقوا عليها حزمة ضعيفة من الإلكترونات وللأسف كانت الصورة غير واضحة، ولكنها أظهرت أن بروتينات الغشاء تصطف بشكل منتظم وبنفس الاتجاه.
كانت هذه الصورة أفضل ما تم الحصول عليه بواسطة المجهر الإلكتروني، وقد أدهشت دقتها الكثيرين، فقد بلغت دقة الصورة 7 أنكستروم (0.0000007 ملّي متر)، ولكنّها لم تكن كافية لتنال اهتمام Henderson، إذ أنه كان يطمح إلى الوصول إلى دقة الصور التي تقدّمها الأشعة السينية والتي تصل إلى 3 أنكستروم تقريبًا، وقد كان واثقًا بأنّ المجهر الإلكتروني قادر على تقديم المزيد.
لم يصب Henderson وفريقه باليأس، فمع استمرار تطور المجهر الإلكتروني تمكن Henderson أخيراً في عام 1990 من التقاط أول صورة ذات بنية ثلاثية الأبعاد الذرية 3D لبروتين غشاء العضيات الصانعة للضوء وكان ذلك بعد إدخال تقنية التبريد Cryotechnology للمجهر الإلكتروني وقام بالتعديل عليها لتلائم تجربته، ولكن بقي السؤال هل يمكن تعميم هذه الطريقة لإظهار صور واضحة على بقية الجزيئات الحيوية ؟
Dubochet يصنع الزجاج من الماء
تعود فكرة استخدام تقنية التبريد في المجهر الإلكتروني بهدف فحص الجزيئات الحيوية للعالم Dubochet وهو أحد الفائزين في هذه الجائزة عندما أضاف الماء للمجهر الإلكتروني، حيث استخدم Henderson كما لاحظنا المحلول السكري لحماية الغشاء من الجفاف ولم ينجح، بينما فكر باحثون آخرون بتجميد العينات قبل وضعها في المجهر لأن الجليد يتبخر بشكل أبطأ من الماء ولكن بلورات الماء المجمد كانت تبعثر حزمة الإلكترونات وتعطي صوراً غير واضحة الدقة، فأتى Dubochet بفكرة الماء الزجاجي – يعرف كذلك بالماء المزجّج Vetrified water – وطبّقها عام 1984.
تعتمد الفكرة على تحويل الماء في العينة السائلة إلى حالة مادة عائمة غير منتظمة الجزيئات وذلك عبر تبريد العينات بشكل سريع بحرارة منخفضة جداً وبوجود الإيثان فينتج الماء الزجاجي، وهكذا يمكن لشعاع الإلكترونات أن يحيد بصورة منتظمة وينتج خلفية موحّدة إضافة إلى حفظ العينات من التدمير. وبالفعل فقد قام Dubochet مع فريقه بنشر أنواع فيروسية منحلة في الماء على شبكة معدنية مغطاة بالإيثان بحرارة -196 C° فأظهر المجهر صوراً للفيروسات الحية بوضوح.
تحليل Frank للصور للحصول على صور ثلاثية الأبعاد
في مكان آخر من العالم كان Frank الفائز الثالث بهذه الجائزة يفكر بطريقة أخرى لإظهار صور المجهر الإلكتروني بشكل أوضح حيث قدم عام 1975 نموذجاً نظرياً يعتمد على دمج الصور ثنائية الأبعاد لإنتاج صور ثلاثية الأبعاد بجودة عالية مستعينًا في ذلك بالحاسوب وذلك باستخدام برمجية خاصة تسمح بتمييز آثار البروتينات المتوضعة بشكل عشوائي عن خلفيتها غير الواضحة في المجهر وفصلهما عن بعضهما البعض ليدمج بعدها الحاسوب الصور ثنائية الأبعاد الخاصة بالبروتينات وإظهارها بشكل صورة ثلاثية الأبعاد 3D، وقام Frank عام 1991 بتنفيذ برمجيته بعد أن استخدم طريقة Dubochet لتحضير عيناته والتي مازالت مستخدمة حتى اليوم وأظهر صورة الريبوزوم لأول مرة بدقة عالية.
ختاماً
في عام 2013 تطورت تقنيات الكاشف الإلكتروني الموجود في المجهر ما ساعد بزيادة دقة الصور محولاً إياها من نموذج صورة “اللطخات الحادة” إلى صور ذات أبعاد ذرية دقيقة وكان Henderson أول من أشار إليها.
ففي السنوات القليلة الماضية تم الكشف عن بنية العديد من الجزيئات الحيوية مثل الجزيئات المعقّدة التي تتحكم بالإيقاع اليومي والذي حصل مكتشفوه على جائزة نوبل في الطب لهذا العام، وكذلك تم إنتاج صورة ثلاثية الأبعاد وبأبعاد ذرية دقيقة لفيروس زيكا Zika والذي تسبب بأضرار كبيرة في أدمغة الأطفال حديثي الولادة في البرازيل، الأمر الذي ساعد الباحثين في البحث عن الأهداف التي يمكن للأدوية الوصول إليها في بنية الفيروس بهدف القضاء عليه.
واليوم بفضل جهود هؤلاء العلماء الثلاثة أصبح بالإمكان مشاهدة أي جزء من أجزاء أي جزيئة حيوية كبروتينات الأغشية والتي تعد هدفاً للمستحضرات الدوائية وغيرها من الجزيئات المعقدة بأدق التفاصيل وبجودة عالية باستخدام المجهر الإلكتروني وهو أمر جعلهم يستحقّون جائزة نوبل للكيمياء وبكلّ جدارة.
المصدر
ترجمة – وبتصرّف – من إصدار “الخلفية العلمية المبسطة” الصادر عن الجمعية الملكية الأكاديمية السويدية للعلوم.