عصر المحركات الجزيئية

كانت جائزة نوبل في الكيمياء للعام 2016 من نصيب كل من Jean-Pierre Sauvage، و Sir J. Fraser Stoddart و Bernard L. Feringa لتطويرهم المكائن الجزيئية والتي تصغر حجم شعرة الإنسان بألف مرة. وسنسلط الضوء في هذا المقال على قصة نجاح هؤلاء العلماء في ربط هذه الجزيئات بعضها ببعض لتصميم مصاعد ومحركات غاية في الصغر.

ما هو أصغر حجم ممكن للآلات والمكائن؟

استهل عالم الفيزياء الأمريكي الشهير Richard Feynman – الحائز على جائزة نوبل في الفيزياء والمشهور بتنبّئه بالثورة التي ستطلقها تكنولوجيا النانو – إحدى محاضراته في سنة 1984 بالسؤال التالي: “ما هو أصغر حجم ممكن للآلات والمكائن؟”. لقد كان Feynman على قناعة تامة بإمكانية بناء مكائن ذات أبعاد دقيقة وصغيرة للغاية، وهذا النوع من الآلات موجود في الطبيعة بالفعل، وقدم Feynman بكتريا الفلاجيلا كمثال على ذلك، إذ تمتلك هذه البكتريا جزيئات مايكروية حلزونية الشكل، يؤدي دورانها إلى دفع البكتريا إلى الأمام، ولكن هل بمقدور الإنسان ذي الأيدي العملاقة أن يبني آلات متناهية في الصغر لا يمكن رؤيتها إلا بالمجهر الإلكتروني؟

إحدى الطرق التي تتيح القيام بذلك هي بناء زوج من الأيدي الميكانيكية ذات حجم أصغر من حجم يد الإنسان تكون مهمتها بناء زوج آخر من الأيدي يصغرها حجماً تكون مهمتها كذلك بناء زوج آخر من الأيدي أصغر منها في الحجم، وهكذا إلى أن نصل إلى أيدٍ صغيرة جدًّا لها القدرة على بناء آلات بأحجام مماثلة لحجمها، وقد أشار Feynman إلى أن هناك من اتبع هذه الطريقة بالفعل، ولكنّه لم يحقق نجاحًا يذكر.

كان Feynman مقتنعًا بأسلوب آخر مختلف تمامًا تبدأ فيه عملية البناء من التفاصيل الصغيرة والتي تشكل بمجموعها الهدف المطلوب، فقد تخيل Feynman أن يتم ذلك عن طريق رش مواد مختلفة مثل السيليكون على سطح معين وعلى شكل طبقات تتلو بعضها بعضًا، ثم يذاب عدد من هذه الطبقات بشكل جزئي ويزال لتكوين أجزاء قابلة للحركة يمكن التحكم فيها بواسطة تيار كهربائي، ولم يتوقف خيال Feynman عند هذا الحد، بل تجاوزه إلى إمكانية استخدام هذه الطريقة لصناعة غالق بصري لآلة تصوير فائقة الصغر.

كان Feynman يهدف من خلال محاضرته هذه إلى إلهام الباحثين وحثّهم على التفكير خارج الصندوق، وعندما أنهى محاضرته تلك توجه إلى الحضور بهذه الكلمة: “أتمنى أن تقضوا وقتاً ممتعاً في إعادة تصميم جميع الآلات والمكائن المعروفة، وأنا متأكد أنه وبعد 25 أو 30 عامًا من الآن سيكون لهذه الآلات فوائد عملية وتطبيقية، ولكن لا أعلم ما هي”.

وقد تحقق ما تنبأ به Feynman وها نحن الآن نخطو الخطوة الأولى في طريق بناء الآلات الجزيئية ولكن بطريقة مختلفة تمامًا عن التي كانت تجول في خيال هذا العالم الكبير.

جزيئات متشابكة ميكانيكياً

حاول الكيميائيون في أواسط القرن العشرين إنتاج سلاسل جزيئية تكون فيها الجزيئات الحلقية مرتبطة ببعضها البعض، ومن يتمكن من إنتاج مركبات متشابكة بهذه الطريقة سينجح في تحقيق أمرين، الأول: إنتاج مركبات جديدة، والثاني: إنتاج نوع جديد من الأواصر.

ترتبط الجزيئات مع بعضها البعض عادة بروابط تساهمية تشارك كل ذرة فيها إلكتروناتها مع الذرة الأخرى المكونة للآصرة، ولكن كان الحلم هو تكوين أواصر ميكانيكية بين الذرات، بمعنى أن تتشابك الجزيئات دون أن تتفاعل الذرات فيما بينها بشكل مباشر.

وقد أشار العديد من الباحثين في خمسينيات وستينيات القرن الماضي إلى قدرتهم على إنتاج مثل هذه السلاسل الجزيئية، ولكن الكميات المنتجة كانت صغيرة جدًّا إلى جانب أن طرق التحضير كانت معقدة للغاية، إضافة إلى أن المركبات الناتجة كانت ذات استخدامات محدودة جدًّا، وقد فقد الكيميائيون الأمل في إنتاج مثل هذه المركبات في السنوات اللاحقة، إلى أن تحقق تقدّم مفاجئ وكبير في هذا المجال سنة 1983 على يد الكيميائي الفرنسي Jean-Pierre Sauvage والذي تمكن من السيطرة على هذه المركبات باستخدام أيون النحاس الاعتيادي.

Jean-Pierre Sauvage يجمع عددًا من الجزيئات حول أيون النحاس

عمل Sauvage في مجال الكيمياء الضوئية الذي يعنى بتطوير معقدات جزيئية لها القدرة على التقاط الطاقة الموجودة في أشعة الشمس والاستفادة منها في توجيه التفاعلات الكيميائية. وقد لاحظ Sauvage أثناء عمله على واحد من هذه المعقدات أن هناك تشابهاً بينها وبين السلاسل الجزيئية Molecular chains، حيث تتشابك جزيئتان حول أيون النحاس المركزي.

كانت هذه الملاحظة نقطة تحول كبيرة في مسار أبحاث Sauvage، فبدأ فريقه البحثي بتصنيع معقدين أحدهما حلقي الشكل والآخر هلالي، وكان أيون النحاس المركزي بمثابة قوة جاذبة لهذين المعقدين، أما الخطوة اللاحقة فتمثلت في إغلاق المركب ذي الشكل الهلالي بواسطة مركب ثالث، لتكوين حلقة جديدة، وبهذا تكونت الرابطة الأولى ضمن السلسلة، ويصبح بالإمكان التخلص من أيون النحاس الذي أدى وظيفته على أكمل وجه.

أعطت هذه الطريقة محصولًا Yeild عاليًا جدًّا بالمقارنة مع طرق التحضير السابقة، فقد حصل Sauvage باستخدام أيون النحاس على نسبة 42%.

أعادت هذه النتائج الحياة إلى مجال الكيمياء الطوبولوجية Topological chemistry، والذي يعنى فيه الباحثون بتشبيك الجزيئات مع بعضها البعض لتشكيل بنى وتركيبات أكثر تعقيداً (كسلاسل طويلة جدًا أو عقد) وذلك بواسطة أيونات فلزية على الأغلب.

الخطوة الأولى باتجاه صناعة المحركات الجزيئية

أدرك Sauvage أن السلاسل الجزيئية (والتي سميت بالكاتينانات catenanes من كلمة Catena اللاتينية والتي تعني سلسلة) ليست مجرد صنف جديد من المركبات، وإنما هي النواة الأولى للمكائن الجزيئية.

لكي تؤدي الماكنة أي مهمة يجب أن تتكون من عدد من الأجزاء المرتبطة في حركتها مع بعضها البعض، وقد حققت الحلقتان المتشابكتان اللتان حضرهما Sauvage هذا الشرط.

وفي العام 1994 تمكن فريق Sauvage من إنتاج كاتينان يحتوي على حلقة يمكن التحكم في دورانها حول حلقة أخرى عند تزويد المركب بالطاقة، وقد مثل هذا المركب أول ماكنة جزيئية غير بيولوجية في التاريخ.

Fraser Stoddart يمرّر حلقة جزيئية في محور جزيئي

في العام 1991 تمكن الكيميائي السكوتلندي Fraser Stoddart وفريقه من إنتاج نوع آخر من السلاسل الجزيئية، وذلك باستخدام مركب حلقي مفتوح فقير بالإلكترونات، وآخر طويل غني بالإلكترونات يمكن تشبيهه بمحور العجلات Axle، وعند التقاء هذين المركبين في محلول، ينجذب المركب الفقير بالإلكترونات إلى المركب الآخر الغني بها، ويدخل المركب الحلقي في المحور، ثم يتم إغلاق الحلقة لضمان بقاء المركب الحلقي مع المركب المحوري، وقد تمكن الفريق من الحصول على محصول جيّد للمركب الجديد الذي أطلق عليه اسم روتاكسان Rotaxane، وهو عبارة عن جزيئة حلقية الشكل ترتبط بمحور جزيئي آخر بصورة ميكانيكية.

حاول Stoddart استغلال حرية الحركة التي تتمتع بها الجزيئة الحلقية على طول المحور، وبالفعل فقد بدأت الجزيئة الحلقية بالحركة جيئة وذهاباً بين الجزئين الغنيين بالإلكترونات في بنية المحور عند تعريض المركب للحرارة، وفي العام 1994 تمكن Stoddart من التحكم بشكل كامل بهذه الحركة متجاوزاً بذلك العشوائية التي تسيطر على الحركة في الأنظمة الكيميائية.

مصعد وعضلة ورقاقة حاسوبية فائقة الصغر

ومنذ ذلك الحين بدأ فريق Stoddart البحثي في الاستافدة من الروتوكسان في بناء عدد من المكائن الجزيئية، ففي العام 2004 تمكن الفريق من بناء مصعد جزيئي قادر على رفع نفسه مسافة 0.7 نانومتر فوق السطح، وفي العام 2005 تم بناء عضلة صناعية حيث يستطيع الروتاكسان أن يثني صفيحة رقيقة جدًّا من الذهب.

كذلك تمكن Stoddart مستعيناً بباحثين آخرين من تطوير رقاقة حاسوبية بواسطة الروتوكسان تحتوي على ذاكرة تخزينية بمقدار 20 كيلوبايت.

وقد نال الروتوكسان قسطًا من البحث من قبل Sauvage وتمكن فريقه في العام 2000 من تشبيك مركبين مع بعضهما البعض ليشكلا معًا بنية مرنة مشابهة للخيوط الموجودة في عضلات الإنسان.

Ben Feringa يصنع أول محرك جزيئي

في العام 1999 تمكن الكيميائي الهولندي Ben Feringa من إنتاج أول محرك جزيئي، وذلك باتباع بعض الأفكار والحيل الذكية والتي مكنته من جعل المحرك يدور في اتجاه واحد وبشكل مستمر.

تتحرك الجزيئات في حالتها الاعتيادية بشكل عشوائي، لذا فإن احتمالية حركة الجزيئة إلى اليسار أو اليمين متساوية في المعدل، ولكن استطاع Feringa أن يصمم جزيئة تم بنائها بشكل ميكانيكي ويمكنها الدوران باتجاه معين.

تتكون الجزيئة التي صممها Feringa من شفرتين دوارتين صغيرتين مرتبطتين مع بعضهما، وهاتان الشفرتان عبارة عن مركبين كيميائين مسطحين مرتبطين مع آصرة كاربونية مزدوجة، وترتبط بكل شفرة مجموعة المثيل Methyl (CH3-)، تعملان عمل ترس السقّاطة ratchets، والتي تجبر الجزيئة على الدوران في اتجاه واحد فقط.

عند تعريض الجزيئة إلى نبضة من الأشعة فوق البنفسجية، تدور إحدى الشفرتين بزاوية 180 درجة حول الآصرة المزدوجة المركزية، ويتحرك ترس السقاطة إلى موقعه، وعند تعريض الجزيئة إلى نبضة أخرى، تتحرك الشفرة بزاوية 180 درجة أيضًا، وبهذا تستمر الشفرتان بالدوران بشكل مستمر وباتجاه واحد.

لم يكن أول محرك تم تصميمه سريعًا جدًا، ولكن فريق Feringa البحثي تمكن من تحسينه وتطويره، ليصل إلى سرعة 12 مليون دورة في الثانية سنة 2014، كما تمكن الفريق من تصميم أول سيارة نانوية بأربعة عجلات، حيث يحمل هيكل جزيئي أربعة محركات تعمل عمل العجلات التي تحرّك السيارة النانوية بدورانها.

محرك جزيئي يدوّر أسطوانة زجاجية صغيرة

وفي تجربة مذهلة أخرى، تمكن فريق Feringa البحثي من تدوير اسطوانة زجاجية صغيرة بطول 28 مايكرومتر (أكبر من المحرك الجزيئي بـ 10,000 مرة)، وذلك بمزج المحركات مع البلورات السائلة، ومع أن نسبة المحركات الجزيئية في السائل البلوري كانت 1% فقط إلا أن المحركات استطاعت تغيير بنية هذا السائل أثناء دورانها، وعندما وضع الباحثون اسطوانة زجاجية فوق السائل البلوري بدأت الأسطوانة بالدوران نتيجة لدوران المحركات.

 

أسطوانة زجاجية تدور بدوران المحرك الجزيئي. المصدر: http://www.nature.com/nature/journal/v440/n7081/suppinfo/440163a.html

 

تطبيقات أخرى للمحركات الجزيئية

لقد أسهمت هذه الإنجازات الكبيرة في مجال المكائن والآلات الجزيئية في توفير أرضية جديدة للباحثين تمكّنهم من استغلال هذه المحركات الجزيئية في العديد من المجالات، وقد ظهرت بالفعل عدد من التطبيقات المذهلة، منها الروبوت الجزيئي Molecular robot الذي يستطيع الإمساك بالأحماض الأمينية وربطها مع بعضها البعض، وقد طوّر هذا الروبوت سنة 2013 بالاعتماد على الروتاكسان.

كما تمكن باحثون آخرون من ربط المحركات الجزيئية ببوليمرات طويلة لتكوين شبكة معقدة من هذه البوليمرات، فعندما تتعرض المحركات الجزيئية للضوء تبدأ بالحركة فتتشابك السلاسل البوليمرية مع بعضها، وبهذه الطريقة يتم تخزين الطاقة في الجزيئات، وإن تمكن الباحثون من إيجاد طريقة لاستعادة هذه الطاقة مرة أخرى، سيكون بمقدورهم إنتاج نوع جديد كليًّا من البطاريات.

بداية عصر المحركات الجزيئية

يمكن القول بأن المحركات الجزيئية الآن تمر بنفس المرحلة التي كانت تمر بها المحركات الكهربائية في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، حيث كان الباحثون يعرضون بكل فخر أنواع مختلفة من العجلات والمسننات الدوارة دون أن يكون لديهم أدنى فكرة عن التطبيقات التي ستنتج عن هذه المحركات، كالقطارات والغسالات والمراوح ومحضرات الطعام.

لذا لا يسعنا، وبعد 32 سنة من محاضرة Feynman الحالمة، إلا أن نخمن أننا سنشهد في الأعوام المقبلة تطورات مذهلة في مجال المحركات الجزيئية، ومع ذلك، يمكننا الآن أن نجيب وبكل ثقة عن السؤال الذي طرحه Feynman في بداية محاضرته: “ما هو أصغر حجم ممكن للآلات والمكائن؟” فنقول: أصغر من شعرة الإنسان بألف مرة.

 

ترجمة – وبتصرّف – من إصدار “الخلفية العلمية المبسطة” الصادر عن الجمعية الملكية الأكاديمية السويدية للعلوم، بقلم Ann Fernholm.

شارك هذه المادة!
Exit mobile version