الكيمياء العامة واللاعضويةمقالات علمية

هل تستطيع أفكار ميكانيكا الكم تفسيرالجدول الدوري للعناصر؟

الجدول الدوري للعناصر الذي وضعه مندليف مكتمل أساساً؛ هكذا هو التأثير الثقافي والعلمي على عامة الناس! الآن – وفي ذكراه الـ 150عاماً – هل يستطيع الباحثون أن يهنئوا بعضهم بعضاً لما أنجز من “جدول” متعدد الفوائد؛ وهم – بين الفينة والأخرى – يضيفون له العناصر الثقيلة المحضرة صناعياً؟!

ترتيب الجدول الدوري للعناصر

مازال ترتيب العناصر هذا – والذي لا يقدر بثمن – غير مستقر.  فمواقع بعض العناصر؛ و بالإضافة لمشاكل موقعي عنصري الهيدروجين و الهليوم؛ يمكن مناقشتها. فهناك شك، من قبل بعض الكيميائيين، في بعض تجمعات الجدول الدوري؛ مثل تلك العناصر المكونة للمجموعة الثالثة.

وهذه العناصر كما يراها التقليديون تشمل:-

السكانديوم scandium، اليتريوم yttrium، اللانثانيوم lanthanum، الأكتنيوم actinium.

ويعتقد بعض العلماء (وهم بعدد متزايد) أن من الضروري استبدال موقعي اللوتيتيوم lutetium واللورنسيوم lawrencium بالعنصرين الأخيرين وفقاً للتركيب الالكتروني لهما.

وقضية نقل عنصر ما إلى مجموعة أخرى قد تكشف عن خصائص جديدة له، فعلى سبيل المثال؛ يمكن أن يكون العنصر أحد الموصلات الفائقة عند درجات الحرارة العالية.

الأوصاف الميكانيكية و الجدول الدوري للعناصر

لا تتفق الأوصاف الميكانيكية-الكوانتمية لترتيبات الإلكترون في بعض الذرات؛ وخصوصاً العناصر الانتقالية مثل عنصر النحاس والكروم مع نمط الترتيب الشائع في الجدول الدوري. ومن غير الواضح لماذا توجد هناك أكثر من 1000 نسخة (شكل مختلف) للجدول الدوري؛ أو هل  هناك نسخة مثالية واحدة للجدول الدوري. فحتى الهيئة العالمية للكيمياء و المتمثلة بالاتحاد الدولي للكيمياء الصرفة والتطبيقية (IUPAC) غير متأكد من ذلك؛ وأيضاً تدعي أنها لا تدعم أي ترتيب ( نسخة) من ترتيبات الجدول الدوري؛ ولكن النسخة الموجودة على موقعها في الويب يضم 30 عنصراً أسفل الجدول الدوري؛ و هذا يتناقض مع أبسط التفسيرات الميكانيكية-الكوانتمية للذرات؛ و التي تتنبأ بـ 28 عنصراً فقط.

القدرة التنبؤية

لم يكن مندليف أول شخص حاول ترتيب العناصر حسب زيادة أوزانها الذرية؛ إلا أنه أول من وضع ترتيب جيد الاستخدام. تنبأ نظامه الدوري في عام 1869 بوجود عدة عناصر غير معروفة والتي شملت الغاليوم gallium، الجرمانيوم  germanium، والسكانديوم scandium.

وفي الـ 150 سنة الماضية؛ استخدم الكيميائيون جدوله الدوري للتنبؤ بالخصائص الذرية؛ وكذلك كان مصدر إلهام لإجراء تجارب تأريخية. أما الفيزيائيون من ثومسون J. J. Thomson إلى شرودنغر E. Schrödinger فاستخدموه كقاعدة لاختبار نظريات التركيب الذري وميكانيك الكوانتم.

لم يكن مندليف يعرف لماذا خصائص العناصر تتكرر دورياً؛ ولكن اليوم ومن خلال عدة محاولات للفيزيائيين لتفسير ذلك؛ صرنا على دراية أن التركيب الذري هو بمثابة القلب لترتيب العناصر في جدول مندليف.

ميكانيكا الكم والقرن والعشرين

في باكورة القرن العشرين؛ لاحظ بعض الفيزيائيين كـ رذرفورد E. Rutherford وباركلا C. G. Barkla  أن الشحنة المركزية للذرات تقريباً تساوي نصف وزنها الذري.

و في عام 1911 عَرَضَ عالم الاقتصاد الهولندي والهاوي بروك A. van den Broek شرحاً مفاده؛ أن الذرات – ما عدا ذرة الهيدروجين – تتكون من مضاعافات جسيم أساسي سماه “الفون alphon” حيث يملك نصف كتلة الهليوم (أي وحدتان من الكتلة الذرية) وبشحنة موجبة واحدة.

الفونونات لم تكن موجودة؛ ولكن فرضية بروك تعد أساس مفهوم العدد الذري؛ حيث عدد البروتونات في نواة الذرة (وكذلك الالكترونات التي تدور حولها) هي من تُحدد موقع العنصر في الجدول الدوري.

أكد الفيزيائي هنري موزلي H. Moseley عام 1913؛ هذا الترتيب باستخدامه لمطيافية الأشعة X. وسوّغ هذا التفسير الفيزيائي إعادة ترتيب بعض الذرات في الجدول الدوري كعنصري التيليرويوم tellurium واليود iodine (حيث العدد الذري لليود أعلى من التيليروم؛ حيث كتلته الذرية أكبر الكتلة الذرية لليود).

وبتوسع ميكانيكا الكم في عشرينيات القرن العشرين؛ طوّر الفيزيائيان بور N. Bohr وباولي W. Pauli تفسير أكثر رقياً للجدول الدوري.

فيصف مبدأ الأوفباو Aufbau (لفظ مشتقة من الألمانية يعني البناء) ترتيبات دوران الالكترونات حول النوى الذرية؛ وما يزال لليوم يُدرس هذا المبدأ. إذ تدور الإلكترونات في سلاسل من مستويات ذات طاقات متزايدة و ابتعاد متزايد عن النواة (وتُعلّم هذه المستويات بأرقام)؛ ويوجد في كل مستوى عدة أوربيتالات (مدارات) و هي s, p , d, f.

وتحدد قوانين ميكانيكا الكم الكيفية التي تشغل بها الالكترونات المتعددة المستويات والأوربيتالات في الذرة. يملك الهيدروجين H الكترون واحد في أوربيتال 1s؛ و الهيليوم He الكترونين؛ و الالكترون الثالث في الليثيوم Li يذهب للأوربيتال 2s و هكذا دواليك …

قاعدة مادلونغ

يستخدم مبدأ الأوفباو قاعدة عددية بسيطة لوصف التعاقب في مليء الأوربيتالات؛ و تُعرف هذه بقاعدة مادلونغ Madelung rule؛ من بعد إضفاء الطابع الرسمي عليها من قبل الفيزيائي أروين مادلونغ E. Madelung في ثلاثينيات القرن العشرين. التسلسل واضح للصفوف الثلاثة الأولى من الجدول الدوري (حيث تمتلك العناصر أوبيتالات s  و p). ويبدأ ملأ أوربيتالات 3p من الألمنيوم Al إلى الأرغون Ar.

ولكن تظهر التعقيدات في الصف الرابع؛ حيث تملأ أوربيتالات 4s للبوتاسيوم والكالسيوم؛ ومن ثم يأتي بعد ذلك العناصر الانتقالية. فالإلكترونات الإضافية في العنصر التالي (السكانديوم لا تذهب إلى أوربيتالات 4p بل إلى 3d. لذلك تعرف العناصر الانتقالية بعناصر الفئة d. تستوعب قاعدة مادلونغ و تتلاءم مع هذه الخطوات غير المتوقعة؛ فمثلاً يمتلأ أوربيتال 4s قبل 3d و 4p قبل 5s وهكذا. ومع هذا فإن قاعدة مادلونغ لم تُشتق من ميكانيكا الكم ولا من المباديء الفيزيائية الأساسية.

في عام 1969، وبعد مرور 100 عام على الجدول الدوري؛ صرّح الكيميائي لودين Per-Olov Löwdin أن اشتقاق قاعدة مادلونغ هو أحد التحديات الرئيسة للكيمياء النظرية؛ ولا يزال هذا التحدي من بعد 50 سنة قائماً.

شذوذ عن القاعدة

والأسوأ؛ وجود 20 عنصراً توزيعهم الالكتروني يبدو أنه لا يخضع لقاعدة مادلونغ؛ لذا اعتبر بعض فلاسفة العلم أنّ هذا يدل على فشل ميكانيكا الكم لتفسير الجدول الدوري، ورغم ذلك؛ تقترح التطورات الحديثة أن ميكانيكا الكم يُمكن أن يتوافق مع مبدأ أوفباو وقاعدة مادلونغ إذا ما تم النظر لهما بعمق.

الكروم أحد العناصر الشاذة؛ وتتنبأ قاعدة مادلونغ أن يكون هناك 4 إلكترونات في أوربيتال 3d و 2 في 4s إلا أنّ التحليل الطيفي أظهر خلاف ذلك؛ 5 إلكترونات في 3d والكترون واحد في 4s، وبالمثل:-

تملك مجموعة من العناصر مثل:-

  • النحاس Cu.
  • النيوبيوم niobium.
  • الريثنيوم ruthenium.
  • الروديوم rhodium .

وعشرات العناصر الأخرى الكترون إضافي في أوربيتالات d او f بدلاً من أوربيتالات s الخارجية كما كنا نتوقع.

شوارز وقضية ميكانيا الكم لعناصر الجدول الدوري

في عام 2006، حرّك الكيميائي النظري شوارز E. Schwarz وزملاؤه ذلك الركود في هذه القضية.

فوفقاً للمنهج الاحتمالي لميكانيكا الكم:-

  • يُمكن أن تتواجد الذرات في مدى من التوزيعات الإلكترونية المحتملة في الوقت نفسه.
  • وبالنسبة للطاقة المسموح بها؛ فهناك احتمالية أن يتموضع (يتواجد) الإلكترون في أو عِبْر عدة أوربيتالات.

لذلك ينبغي أن تؤخذ بالاعتبار كل هذه الخيارات واحتمالاتها عند اشتقاق التوزيع الالكتروني الأكثر استقراراً.

وفي المعدل؛ فإنّ التوزيعات الالكترونية المتوقعة لمعظم الذرات منسجمة مع قاعدة مادلونغ.

وتخمن الحسابات الحالات الشاذة بشكل صحيح، بملائمتها للتجارب، وهكذا؛ تستطيع ميكانيكا الكم أن تفسر العناصر المحيرة تلك، ومع ذلك؛ فمعظم الكيميائيين والفيزيائيين وكتاب الكتب المدرسية Textbook لا يدركون هذا.

كما يمكنك أيضًا الأطلاع على: الجدول الدوري والخواص الدورية لعناصره

شوارز يقر شذوذ بعض العناصر الإنتقالية

في عام 2010، أوضح شوارز وفريقه أن هناك شذوذ آخر للعناصر الانتقالية تحرر (تطلق) الإلكترونات لبعض الذرات نتيجة تأينها وغير خاضعة لقاعدة مادلونغ . فمثلاً  الإلكترون الإضافي في السكانديوم يقع في أوربيتال 3d؛ ولكن عند تأين السكانديوم؛ سيفقد الكترون من 4s أولاً كما أوضحت التجارب.

وهذا غير معقول؛ فالكتب المنهجية تقول أن 4s أقل طاقة من 3d، ولكن عادت هذه المشكلة؛ مرة أخرى على طاولة البحث من قبل العلماء.

استخدم شوارز بيانات طيفية دقيقة للقول بأنّ أوربيتال 3d في السكانديوم يُملأ قبل اوربيتال 4s.

لم يدركوا عامة الناس، ما عدا المطيافيين spectroscopists، ذلك من قبل؛ فما زال معلّموا الكيمياء يصفوا أنّ التوزيع الالكتروني للعناصر السابقة في الجدول الدوري يُرحّل للعناصر التالية.

وفي الحقيقة فإنّ:-

  • كل ذرة لها ترتيبها الفريد لمستويات الطاقة خاص بها.

فأوربيتالات 3d في السكانديوم أقل طاقة من اوربيتال 4s. ودعا شوارز الكيميائيين للتخلي عن قاعدة مادلونغ وكذلك تحدي لودن لأن بها اشتقاق.

شوارز وقاعدة مادلونغ

لقد كان شوارز محقاً بقوله أن قاعدة مادلونغ  عندما يتعلق الأمر بالملأ التدريجي لأوربيتالات ذرة ما؛ ولكن ما زالت القاعدة صحيحة بالنسبة للإلكترون المُميّز للعنصر عن العنصر السابق في الجدول حيث يخضع لقاعدة مادلونغ. وفي حالة البوتاسيوم والكالسيوم؛ فإن:-

“الإلكترون الجديد” بالنسبة للذرة السابقة هو إلكترون أوربيتال 4s.

ولكن في عنصر السكانديوم؛ فإن الإلكترون الذي يميزه عن الكالسيوم هو إلكترون أوربيتال 3d وبالرغم من أنه ليس الإلكترون الأخير من حيث انضمامه لتركيب الذرة.

يمكنك الأطلاع أيضًا على: (صورة) الجدول الدوري المصور للعناصر

بكلمات أخرى:-

يبقى المنهج البسيط لاستخدام مبدأ أوفباو، وقاعدة مادلونغ صالحاً عند النظر للجدول الدوري ككل، ولكن ينهار عند النظر لذرة محددة وطريقة الملأ التدريجي لأوربيتالاتها وطاقات تأينها.

ومرةً أخرى؛ عاد التحدي لاشتقاق قاعدة مادلونغ، ولا تزال النظريات مطلوبة

هذه المعرفة حول أوربيتالات الإلكترون لا تُغيّر ترتيب أو مكان أي عنصر في الجدول الدوري؛ ولا حتى العناصر العشرين الشاذة.

إلا أنها تعزز الأساس النظري لها.

وتُبيّن مدى المرونة التي يتمتع بها الجدول الدوري؛ وبرفقة التجارب التي تُطوّر وتطورت حوله؛ كقاعدة مادلونغ، تؤدي ميكانيكا الكم عمل رائع بتفسير الخصائص النوعية للذرات.

ولاتزال بعض الأشياء مطلوبة أكثر لرؤية الصورة الكبيرة. ولكن بالرغم من تحذير شوارز من حسابات ميكانيكا الكم السطحية؛ إلا أن الغوص بعمق ميكانيكا الكم قد يكشف التفسير الأساسي لقاعدة مادلونغ أو طريقة جديدة للتفكير بها.

وبعد مرور 150 عاماً؛ ما زال الكيميائيون النظريون والفيزيائيون والفلاسفة بحاجة إلى فهم شامل للجدول الدوري؛ والتفسير الفيزيائي له.

فقد تكشف التجارب شيئاً جديداً كما حدث في عام 2017؛ باكتشاف أن بإمكان الهيليوم He تكوين مركب Na2He عند الضغوط العالية جداً.

فأروع أيقونة في الكيمياء تستحق كل هذا الاهتمام…

المزيد من المصادر:

Dong, X. et al. Nature Chem. 9, 440–445 (2017)

Schwarz, W. H. E. & Wang, S.-G. Int. J. Quantum Chem. 110, 1455–1465 (2010)

Scerri, E. R. The Periodic Table: Its Story and Its Significance. J. Chem. Educ. 2007, 84, 4, 598

Eric Scerri. Can quantum ideas explain chemistry’s greatest icon? Nature 565, 557-559 (2019)

شارك هذه المادة!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى