البحث عن مضادات حيوية جديدة ينمو بقوة مع ارتفاع المقاومة
في صيف 2016، أصدر مسؤولو الصحة العامة في مقاطعتين تابعتين لولاية كولورادو إنذارات بأنّ من يشربون الحليب الطازج من منتجات الألبان المحلية كانوا يصابون بنوع من الالتهابات الجرثومية المعروفة باسم داء العطائف Campylobacter jejuni. أصيب حوالي عشرة أشخاص بالإسهال والحمى والتقيؤ لأكثر من ١٠ أيام. ونُقل أحدهم إلى المستشفى، بالرغم من أن حالات العدوى عادة ما تعالج بالإكثار من شرب السوائل. وبعد أشهر كشف مسؤولو الصحة عن سبب استمرار العدوى لفترة طويلة، حيث طورت البكتيريا من مقاومتها للمضادات الحيوية المستعملة عادة لعلاجها.
تتكرر هذه الحوادث باستمرار منذرة بمستقبل قاتم، فقد أصبحت تتطلب العدوى سهلة المعالجة جرعات استثنائية من المضادات الحيوية، ليتزايد معها استعمال المضادات الحيوية عن طريق الوريد كملاذ أخير بشكل كبير.
يقول فلويد رومسبيرج Floyd Romesberg، الباحث في المضادات الحيوية الطبيعية في معهد سكريبس للأبحاث Scripps Research في كاليفورنيا “إنّ القلق الحقيقي هو ما سيكون عليه العالم بالنسبة لأطفالنا، فالعثور على أدوية جديدة لقتل البكتيريا الممرضة أصبح أكثر صعوبة”. ستكون العقاقير مستقبلًا أكثر نوعية واستهدافًا، وأكثر تكلفة كذلك.
حيل البكتيريا
يبدو أنّ تطوير المضادات الحيوية يسير في اتجاهين، وهما تعديل السقالات الجزيئية للأدوية المجربة لاستعمالها بشكل أكبر في العلاج، كحلقة بيتا لاكتامβ-lactam الموجودة في البنسلين. والبحث في الشقوق غير المكتشفة لعلم وظائف الأعضاء البكتيرية، على أمل اكتشاف فئات جديدة من المضادات الحيوية.
يقول لين سيلفر Lynn Silver مستشار صناعة المضادات الحيوية، يواجه الباحثون ثلاثة تحديات كبيرة: وهي استمداد مركبهم من داخل البكتيريا وخاصة سالبة الغرام التي لها أغشية خارجية يصعب اختراقها؛ واستنزاف المقاومة، ومنع الآثار الجانبية السامة لدى تناولها.
تمتلك البكتيريا طرق عديدة لتحييد عمل المضادات الحيوية، كإنتاج مستوى مرتفع من مضخات التدفق كوسيلة لدفع المضادات الحيوية التي تعبر الخلايا للخارج. أو تطوير الأنزيمات التي تعدل الأدوية، وتحد من فعاليتها. أو من خلال زيادة تكاثرها. فمثلًا إذا هاجم المضاد الحيوي بروتينًا ما في جدار خلية البكتيريا، فستنتج البكتيريا بروتينًا آخر محصن ضده ليحل مكان سابقه.
يقول اريك جوردون، الرئيس التنفيذي لشركة أريكسا Arixa للأدوية إنّ ابتعاد صناعة الأدوية عن البحث هي السبب في جفاف بئر المضادات الحيوية الجديدة منذ عقود، حيث كانت صناعة الأدوية إبان الحرب العالمية الثانية بأكملها صناعة مضادات حيوية. لقد اعتمد العلماء على السقالات الجزيئية للمضادات الحيوية طيلة الفترة الماضية ووصلوا إلى نتائج إيجابية، لكنها لن تكون قادرة على تقديم الكثير لنا بعد الآن.
تعمل شركة أريكسا على عقار أفيباكتام avibactam وهو جرعة فمويّة معتمد من قبل إدارة الأغذية والأدوية الأمريكية US Food and Drug Administration، يُعطى كحبوب أو عن طريق الوريد مع المضاد الحيوي، ليقوم بتثبيط أنزيم اللاكتاماز β-lactamase الذي تنتجه البكتيريا لتعطيل عمل المضاد الحاوي على حلقة β-lactam التقليدية، التي تمنع البكتيريا من بناء جدران خلاياها. حيث إضافة المثبط الأنزيم للمضاد الحيوي يمكنه التغلب على آليات المقاومة للبكتيريا لبعض الوقت على الأقل، وذلك مع العلم بأنّ البكتيريا وعلى مر السنين تمكنت من تطوير آلاف الأنزيمات التي تحيد عمل β-lactams لوحده، عرف منها قرابة ٢٧٠٠ أنزيم لحد الآن.
يقول جوردون إنّ إعادة صياغة عقار موجود يمر بالقليل من العقبات التنظيمية التي يجب أن تتخطاها الشركات، وهو أقل تكلفة من بناء مضاد حيوي جديد. ستعمل هذه الجهود لبعض الوقت، لكنها “لا تجيب عن مصادر المضادات الحيوية في المستقبل”. إنّ المجال ينفد لاستخدام الهياكل التقليدية لبناء مضادات حيوية جديدة. ويشير الباحثين لوجود عدد قليل من المضادات الجديدة، التي استطاعوا بنائها بنجاح لاستعمالها في المستقبل.
البحث عن السقالات الجديدة
في نهاية المطاف، ستتوقف تعديلات المضادات الحيوية المعروفة عن إنتاج أدوية جديدة. هذا السبب دفع العديد من العلماء، بما في ذلك، رومسبيرج ليتحولوا إلى المنتجات الطبيعية كمصدر لمواد البناء الجديدة. كالبنسلين، “تقريبًا جميع المضادات الحيوية الجيدة أتتنا من الطبيعة، لقد ثبت أنه من الصعب على الكيميائي بناء سقالات جديدة”.
يقوم مختبر رومسبيرج بالبحث في السقالات الجاهزة للمركبات الطبيعية للاستفادة منها. وإحدى هذه الأنواع التي يدرسها فريقه هي مجموعة مضادات حيوية مستمدة من البكتيريا تدعى الأريلوميسين arylomycin، عزلت لأول مرة في 2002، وتعمل على تثبيط نشاط أنزيم ببتيداز الإشارة الذي يسمح للبكتيريا بإفراز البروتينات وإيوائها في أغشيتها. وتستخدم أنواع بكتيرية مختلفة الأريلوميسينات لمحاربة بعضها البعض، ويقول رومسبيرج إنّ هذه المركبات اكتسبت اهتمامًا بسيطًا كمركبات طبية محتملة، للاعتقاد بأنها ستعمل على عدد صغير فقط من الأنواع البكتيرية.
تضع الشركات شروط معينة للسقالات الجديدة قبل تتبعها كدواء محتمل. كأن يكون لها تأثير محفوظ ونشاط واسع الطيف، وهو “شرط مضلل”. حيث أن المركب المستهدف -ضيق الطيف- يمكنه قتل أو تشويه العديد من أنواع البكتيريا، إلى أن تُظهر تفوقها ومقاومتها له، لتضغط على الكائن الذي ينتج المضاد الحيوي لتعديل سلاحه، مما يخلق مجددًا مركبًا واسع الطيف، وتستمر تلك الدورة واسعة الطيف والمستهدفة. ومن المحتمل أن تكون جميع المنتجات الطبيعية التي أصبحت مضادات حيوية ناجحة، قد عُثر عليها في الجزء واسع الطيف من دورة نشاطها. إن تجميع المركبات في الجزء المستهدف من الدورة لا يضيع الوقت.
عندما اكتشف فريق رومسبيرج الأريلوميسين، وجدوا أنه مركب ضيق الطيف بالرغم من التسلسل المستهدف المحمي. قام الفريق باختبار المركب ضد العديد من الأنواع البكتيرية، وراقبوا تطور مقاومتها، أظهرت بكتيريا المكورة العنقودية الذهبية Staphylococcus epidermidis قابلية للتأثر حيث كانت تقوم بتغيير ببتيداز الإشارة الخاص بها بطريقة معينة، عن طريق استبدال حمض السيرين بالبرولين. تستخدم بعض البكتيريا المقاومة للأريلوميسين نفس الحيلة للتهرب من المضادات الحيوية. ووصل الفريق لنتيجة بأن الأريلوميسين المستهدف حاليًا، كان ذات يوم واسع الطيف. مما دفعهم للتركيز على تعديل السقالة الطبيعية للتغلب على التأثير المزعزع لاستقرار البرولين وذلك بهدف تحويل الأريلوميسين لمضاد حيوي واسع الطيف مرة أخرى.
ولمواجهة هذا التحدي تعاونت شركة RQx الدوائية التي أسسها رومسبيرج مع شركة جينين تك Genentech، والتي نشر علمائها في وقت سابق بيانات عن مركب يحوي الأريلوميسين يمكنه قتل البكتيريا المرتبطة ببعض أنواع العدوى المكتسبة من المستشفيات عن طريق ربط الحمض الليزين في ببتيداز الإشارة ربطًا تساهميًا. من الناحية النظرية ستحبط هذه الرابطة القوية تأثيرات البرولين المستبدل بالسيرين في مكان ما في بنية الببتيداز.
أهداف ومنتجات حديثة
مع ظهور تسلسل المورثات في التسعينيات، كان العلماء على يقين بأن تسلسل المورثات البكتيرية ستسفر عن كنز من البروتينات التي لا تستطيع البكتيريا العيش بدونها، مما يفتح المجال لصناعة أدوية جديدة إما من مركبات معروفة أو لمركبات لم تختبر بعد. رغم أنّ سيلفر وجوردون يشككان بأهمية الأمر بقولهم أن المورثات الموصوفة كانت معروفة بالفعل، وأن البكتيريا ستكون قادرة على التحايل على الأمر. إلا أنّ العلماء أمثال Concepción González-Bello كونسبسيون غونزاليس بيلو، وهي متخصصة في الكيمياء العضوية في جامعة سانتياغو دي كومبوستيلا تقول بأنّ “اكتشاف أهداف جديدة يعطيك الفرصة لمفاجئة البكتيريا”، تدرس غونزاليس بيلو بعض المورثات الأساسية للبكتيريا، بما في ذلك مورثتين في المسار الاستقلابي لحمض الشيكميك الضروريتان للبقاء على قيد الحياة. وتعتقد أن تصميم المضادات الحيوية للأهداف الجديدة سيؤدي لأدوية قد تستعصي مقاومتها على البكتيريا أكثر من الأدوية التي طورت لأهداف معروفة.
في الوقت الذي يبتعد فيه الباحثون عن الأهداف الجديدة، تقول غونزاليس-بيلو إنّ الأعمال الأكثر إثارة للاهتمام هي التي تركز على بناء المضادات الحيوية الجديدة والمواد المضافة لها التي تعزز عملها بشكل أفضل. كمثبط β-lactamase التقليدي. بالإضافة لذلك فإن الأبحاث الحديثة تدور حول المركبات المعززة للمناعة (المساعدة) الطبيعية والاصطناعية التي يمكن إقرانها بالمضادات الحيوية لإذكاء الاستجابة المناعية، حيث تستهدفها مستقبلات الخلايا المناعية التي يطلقها جهاز المناعة البشري لأجل للتعرف على الأنماط الكيميائية على سطح البكتيريا.
ومن الطرق الواعدة الأخرى، هي الببتيدات المقاومة للبكتيريا التي يطلقها جهاز المناعة البشري استجابة للعدوى، والتي تتداخل مع غشاء خلية البكتيريا أو مع تكوين الحمض النووي والبروتين، الضروريان للبقاء على قيد الحياة. وكذلك ظهرت الببتيدات الطبية المضادة للميكروبات كالفانكومايسين vancomycin والدبتومايسين daptomycin كعلاجات أخيرة.
بالرغم من ذلك تملك بعض الأنواع البكتيرية مقاومة للمعالجة الأخيرة. لذلك يركز بعض العاملين في الصناعة أبحاثهم على هذه الأنواع شديدة المقاومة، ضيقة الطيف. شركة جينين تك على سبيل المثال وبالشراكة مع سياتل جينيتكس وسيمبوغن Seattle Genetics and Symphogen صممتا جسم مضاد للأدوية المضادة في مراحله الأولى يدور حول مضاد الريفاميسين الذي ينْشط بعد عبوره للخلايا. ليلتحم بجدار خلية بكتيريا المكورة العنقودية الذهبية قبل أن تغزو خلايا جسم الإنسان، وينشط المضاد الحيوي. إنّ هذه البكتيريا تمتاز بمقاومتها لمضاد الميثيسيلين، ولجميع المضادات الحيوية المعروفة للبيتا لاكتام بالإضافة لبعض المضادات الأخرى كالفانكوميسين. وعلاوة على هذه المقاومة الشديدة، فهي تختفي داخل الخلايا الدائرية، مما يسمح لها بالانتقال من موقع الإصابة الأولي إلى أماكن أخرى في الجسم.
بعض المضادات الحيوية المستهدفة تظهر تقدمًا في الاستخدام السريري. في منتصف شهر تشرين الثاني الماضي، أصدرت شركة التقنية الحيوية انتاسيس ثيرابيوتكس Entasis Therapeutics نتائج تجارب سريرية ملفتة للنظر لمضاد حيوي ضيق الطيف يثبط تخليق الحمض النووي لدى الأشخاص المصابين بعدوى السيلان يدعى زوليفلوداسين zoliflodacin. وهو تقدم مطلوب لمعالجة بعض الأشخاص الذين استمرت أصابتهم بالعدوى المنتقلة جنسيًا بعد جولات عديدة من استخدام المضادات واسعة الطيف.
يقول مانوس بيروس Manos Perros الرئيس التنفيذي لشركة Entasis Therapeutics، في حين أن معظم الناس سيظلون قادرين على استخدام المضادات الحيوية واسعة الطيف، لكن بالنسبة لمجموعة صغيرة من الناس، فإن “المضادات الحيوية البكتيرية ستصبح كأدوية الأمراض النادرة، ملائمة لآلية المقاومة”. مما يرفع الأسعار بسبب حجم المبيعات القليل، لكنها ستكون أكثر منفعة وتستخدم مرة واحدة، بالرغم من أن إدارة الغذاء والدواء والكونغرس قد صادقوا على إنشاء برامج لمتابعة المضادات الحيوية، والمجموعات غير الربحية مثل Carb-X التي تقدم الدعم المالي للبرامج الواعدة، وتشير الشركات إلى أن تطوير أدوية مستهدفة سيكون باهظ الثمن.
يبدد بيروس أيضًا التفاؤل بحقيقة أن أي مضادات حيوية معتمدة هي مكاسب قصيرة الأجل. “كل معركة ستكون معركة خاسرة، علينا تغيير طريقة خوض هذه الحرب إذا أردنا الانتصار. لا أستطيع تخيل أن المجتمع سيسمح للأمور بالعودة إلى العصر الذي يمكن أن نموت فيه من جرح طفيف”.
المصادر:
Satyanarayana, M. The hunt for new antibiotics grows harder as resistance builds. Chemical and Engineering News 96(49).
Smith, PA., & et al. Optimized arylomycins are a new class of Gram-negative antibiotics. Nature 561, 189–194 (2018).
Peter A. Smith and Floyd E. Romesberg. Mechanism of Action of the Arylomycin Antibiotics and Effects of Signal Peptidase I Inhibition. Antimicrobial Agents and Chemotherapy 56(10), 5054–5060.